المحكمة الدستورية في تونس: بين النص الدستوري والفراغ المؤسسي -
المحكمة الدستورية في تونس: بين النص الدستوري والفراغ المؤسسي
المحكمة الدستورية في تونس: بين النص الدستوري والفراغ المؤسسي
منذ المصادقة على دستور 2014، ثم الدستور المعدل في 2022، ظلّت المحكمة الدستورية في تونس مؤسسة غائبة، رغم أنها تُعد من أهم ركائز النظام السياسي الديمقراطي. هذا الغياب لم يَعُد مجرّد تعثّر إجرائي، بل تحوّل إلى خلل جوهري يُهدد مبدأ الفصل بين السلطات، ويُضعف من مشروعية النصوص القانونية في غياب آلية رقابة دستورية مستقلة.
تونس: محكمة على الورق فقط
ينص الفصل 125 من دستور 2022 على ضرورة إرساء محكمة دستورية تتمتع بالاستقلالية، وتُعنى حصريًا بمراقبة دستورية القوانين والبتّ في النزاعات بين السلطات. كما يُخوّل لها النظر في الطعون الانتخابية ومراقبة دستورية المعاهدات. لكن، رغم مرور وقت طويل على دخول هذا النص حيّز التنفيذ، لم تُفعّل المحكمة الدستورية، ما أدّى إلى فراغ مؤسساتي خطير في قلب المنظومة القانونية.
في خطاب الرئيس: استحضار للدستور... وانتقائية في التطبيق
رئيس الجمهورية غالبًا ما يستحضر الدستور في خطاباته بوصفه التعبير الأسمى عن الإرادة الشعبية، لا سيما بعد استفتاء 2022. غير أن هذا الخطاب يُقابله تعامل انتقائي مع النص الدستوري، حيث تُتجاهل عن عمد الآليات المؤسسية المستقلة، وفي مقدّمتها المحكمة الدستورية.
إن غياب المحكمة يُستغل لتأويل القوانين وفرض قرارات ذات طابع تشريعي دون رقابة دستورية، مما يُقوّض مبدأ التوازن بين السلطات، ويحول دون تفعيل الضوابط الديمقراطية التي يُفترض أن تحكم العلاقة بين مختلف السلط.
دور مجلس نواب الشعب: بين التخلي واللامسؤولية
يُفترض بمجلس نواب الشعب أن يكون أحد أبرز الفاعلين في مسار إرساء المحكمة الدستورية، سواء من خلال المصادقة على القوانين المنظمة لها أو عبر ترشيح جزء من أعضائها. كما أنّ من مسؤولياته الدستورية مراقبة احترام السلطة التنفيذية لمقتضيات الدستور.
لكن الواقع السياسي يُظهر غيابًا شبه تام لدور المجلس في هذا الملف. فلا مبادرات تشريعية جادة، ولا مساءلات فعلية، ولا ضغط سياسي في اتجاه التسريع بتفعيل المحكمة. والأسوأ من ذلك، أن مكتب المجلس قرّر مؤخرًا سحب مشروع قانون تنظيم المحكمة الدستورية، بعد أن قام نصف النواب من مقدّميه بسحب توقيعاتهم، ما يُعمّق أزمة الثقة في التزام البرلمان باستحقاقات الانتقال الديمقراطي.
هذا السلوك يُعدّ تراجعًا خطيرًا عن أهم ضمانات دولة القانون، ويُرسل رسالة سلبية حول أولويات المؤسسة التشريعية في تونس.
أمام هذا المشهد المربك، تبرز مجموعة من الأسئلة الجوهرية:
لماذا يغيب الإصرار البرلماني على استكمال تفعيل المحكمة الدستورية؟
هل تحوّل مجلس النواب إلى واجهة شكلية تبارك قرارات السلطة التنفيذية دون رقابة فعلية؟
كيف يمكن ضمان احترام الدستور في ظل غياب الهيئة الوحيدة المخوّلة بالسهر على سموّه؟
هذه التساؤلات لا يجب أن تبقى معلّقة، بل يجب أن تُطرح بقوة داخل الفضاء العمومي. فالمحكمة الدستورية ليست مؤسسة عادية، بل هي العمود الفقري لأي نظام ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات ويضبط توازن السلط.
تفعيل المحكمة الدستورية بات أولوية وطنية. وهو اختبار حقيقي لمدى التزام الطبقة السياسية، وخاصة البرلمان، بإقامة دولة قانون ومؤسسات. فإما أن نكون في دولة يحكمها الدستور وتُراقَب فيها السلطات، أو نعود إلى مربع الحكم الفردي باسم الشرعية الدستورية، لكن دون أدوات رقابة دستورية.
إن المساءلة اليوم لم تعُد خيارًا، بل ضرورة، إذا أردنا إنقاذ ما تبقّى من المسار الديمقراطي في تونس.
محمد الضاوي